الأربعاء، 3 أغسطس 2011

الأغنية الخامسة:ولمّا تخلص تجري على طول..


غرفة الانتظار في عيادة الطبيب الذي يشبه الصينيين  واسعة للغاية..تجلس منكمشة في كرسيها الدائم بجوار الشباك ابتعاداً عن رائحة المطهرات التي تخنقها..أمها بجوارها تجلس في صمت الاعتياد على الانتظار..هي مثلها لم يعد يتعبها الانتظار..لم تعد تندهش من أعداد المرضى في العالم..لم تعد تخجل من صوت سعالها الجاف الذي يجعل جميع من في الغرفة أو الفصل أو المنزل يلتفتون إليها..لم تعد تحزن من سكونها الدائم و منعها من الجري في الشارع أو ركوب الدراجة..تعطيها أمها شوكولاته لتأكلها..لم تعد تفرح بالشوكولاتة و لا اللعب الكثيرة التي يجلبها لها أبوها من الخارج في الأجازات..الشوكولاته لا تمنع السعال ...تنظر إلى الرجل العجوز الجالس أمامها نصف نائم..بالجلباب الرمادي و الطاقية على رأسه و جواره تجلس ابنتاه الشابتان..تكسر الشوكولاته لتخرج اللعبة الصغيرة بداخلها فتتدحرج إلى أسفل مقعده..يتناولها و يمد يده  إليها بها فتأخذها.. يربت على رأسها الصغير و يعود للاستناد إلى عصاه نصف نائم..

التمرجي بشاربه الأصفر الذي يضحكها..يضحك و يشعل التلفزيون على أغنية أطفال من أجلها..كان صوته عال دائماً و يزعجها تماماً..كانت تكره أغنيات الأطفال و تكرهه لأنه هو من وضع لها قناع البنج في المرة السابقة ..بعدها استيقظت لتجد نفسها راقدة على السرير في الغرفة الصغيرة الملحقة بغرفه العمليات في العيادة جوارها ولد نائم اكتشف الطبيب بالمنظار أن سبب سعاله هو قشرة لب ظلت عالقة بقصبتُه الهوائية..الحكاية التي سمعت أمها ترويها بعد ذلك للجميع مئات المرات متحسرة أن مرض ابنتها ليست ببساطة إزالة قشرة لب من على القصبة الهوائية بعملية منظار..أكلت الكثير من اللب الأسمر بقشره بعد ذلك حتى تسهل للطبيب مهمته في المرة القادمة بلا فائدة..
يُدخِل التمرجي الرجل العجوز و ابنتيه قبلها..تظل محدقة في مقبض الباب حتى يدور فتعرف أن المريض اللي يسبقها سيخرج الآن و تدخل هي..تريد الانتهاء سريعاً من كل ما تعرف أنه سيحدث ..الطبيب الذي يشبه الصينيين  يضع سماعته الباردة على صدرها و ظهرها و يطلب منها أن تتنفس بصوت عال..ثم يجلس ليصف أدوية جديدة و يخبر أمها أن حان الوقت للتدخل الجراحي ليعرفوا ماذا يحدث حقاً داخل رئتها المسكينة..تنظر إلى السقف متجاهلة نظرات أمها الحزينة و هزات رأسها مع كلام الطبيب..ثم تعود إلى المنزل لتأخذ الأدوية و الحقن التي لم تعد تؤلمها الآن..
كان مقبض الباب قد بدأ في الدوران بالفعل بسرعة مبالغ فيها..صوت الصراخ غطى على الأغنية الدائرة..الطبيب و مساعده يحملان العجوز مغمض العينيين إلى حجرة الجراحة و وراءه  ابنتاه تصرخان..تحضنها أمها مخبأة وجهها الصغير في صدرها تلتفت بعينيها  لترى وجه العجوز المغمض..يفتح عينه فجأة وينظر إليها بجمود ثم يختفي الجميع داخل الغرفة..كانت أمها تبكي ..دقيقة ثم خرج الطبيب  وهو يتلو الشهادة عائداً إلى غرفه الكشف..يقول التمرجي للبنتين :بلاش تنقلوه بالإسعاف عشان متدخلوش في سين و جيم أسندوه بينكم بقى كده لحد ما توصلوا البلد كلها ربع ساعة..البنتان يسندان أباهما الفارغ من الحياة  بينهما و يبكيان..يغادران العيادة بخطى ثقيلة..

...........................

يخبر التمرجي أمي أن علينا الدور في الدخول....سرير الكشف لا يزال غائصاً بوزن الرجل العجوز و مشعاً بحرارته..انظر إلى الجميع من حولي..الطبيب..التمرجي..أمي..سقف الحجرة البارد..الأغنية لا تزال تدور..لا تزال تدور..و أنا أبكي..أبكي فقط بلا صوت..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق